فرنسا تفتح باب المساءلة.. شكوى دولية ضد انتهاكات حقوق الصحفيين في فلسطين
فرنسا تفتح باب المساءلة.. شكوى دولية ضد انتهاكات حقوق الصحفيين في فلسطين
في خطوة اعتبرتها أوساط إعلامية وحقوقية تطوراً بالغ الأهمية في مسار محاسبة منتهكي حرية الصحافة في مناطق النزاع، تقدّم الاتحاد الدولي للصحفيين بالتعاون مع فرعه الفرنسي (النقابة الوطنية للصحفيين) الثلاثاء، بشكوى رسمية لدى النيابة الوطنية لمكافحة الإرهاب في باريس، تتهم جهات غير محددة بعرقلة حرية الإعلام وارتكاب جرائم حرب ضد الصحفيين في الأراضي الفلسطينية.
وتستند الشكوى إلى شهادات سرية لصحفيين فرنسيين يعملون على الأرض، جُمعت بطريقة تحمي سلامتهم وتسمح لهم بمواصلة عملهم وسط واقع يتسم بالخطورة والانتهاكات اليومية، وفق "فرانس 24".
الإغلاق الإعلامي في غزة
ترتكز الشكوى بشكل أساسي على ما وصفته المنظمتان بحالة تعتيم غير مسبوقة فرضت على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023، وهو اليوم الذي تغيّر فيه المشهد الإعلامي بالكامل، فغزة، التي لم يُسمح لأي صحفي أجنبي بالدخول إليها بحرية منذ تلك اللحظة، تحولت إلى ما يشبه منطقة مغلقة على الحقيقة، حيث لا صوت يصل إلى العالم إلا عبر جهود الصحافة المحلية التي دفعت ثمنا دمويا باهظا، وأكد الاتحاد الدولي للصحفيين أن 225 صحفيا وعاملا في وسائل الإعلام قُتلوا خلال هذه الفترة، في واحدة من أسوأ موجات استهداف العاملين في الإعلام التي شهدها القرن الحالي.
وتشير الشكوى إلى أن الإغلاق الإعلامي لم يقتصر على غزة وحدها، بل امتد إلى الضفة الغربية وإسرائيل نفسها، حيث وثق مراسلون فرنسيون يعملون في الميدان سلسلة واسعة من الانتهاكات شملت المنع من التغطية، إقامة الحواجز، مصادرة المعدات، الاعتداء الجسدي، التلويح بالأسلحة، الاحتجازات التعسفية، والتفتيش والاستجواب، ووصف بعضهم ما يحدث بأنه أشبه بعملية مطاردة يومية تمنع أي رواية مستقلة من الوصول إلى الجمهور.
تقول الشكوى إن هذه الانتهاكات ليست أحداثا معزولة، بل جزءاً من نهج واسع يهدف إلى منع نقل صورة دقيقة ومتوازنة لما يجري على الأرض، وتوضح أن توثيق الانتهاكات يشير إلى مشاركة وحدات عسكرية وشرطية وإدارية وجمركية، إضافة إلى مجموعات من المدنيين والمستوطنين في الأراضي المحتلة، ويرى معدو الشكوى أن الهدف من هذا السلوك هو فرض رواية أحادية تحجب حجم الانتهاكات المرتكبة وتحد من قدرة الصحافة على أداء دورها الطبيعي بوصفها رقيبا مستقلا.
الصحفي بين المهنة والخطر
ويوثّق التقرير شهادات لصحفيين فرنسيين قالوا إنهم يُعاملون في كثير من الأحيان بوصفهم ناشطين أو طرفا في النزاع، الأمر الذي يعرضهم للتهديد المباشر، وتحدث بعضهم عن مطاردات نفذها مستوطنون مسلحون قرب أماكن التغطية، في مشاهد تؤكد هشاشة الظروف التي يعمل فيها الصحفيون، وتحول الكاميرا إلى هدف محتمل، وأكدت النقابة الوطنية للصحفيين في فرنسا أن الخطر الذي يهدد حياة الصحفيين لم يعد نظريا أو محتملا، بل أصبح ملموسا ومباشرا في اللحظة التي يحاولون فيها أداء واجبهم المهني.
أحد أهم عناصر الشكوى هو تأكيد المنظمتين أن وقوع الانتهاكات في أراضٍ محتلة يسقط عن إسرائيل إمكانية التذرع بحصانة الدولة أمام القضاء الفرنسي، ويفتح الباب أمام ملاحقة قانونية محتملة، ويستند هذا الطرح إلى القوانين الدولية التي تمنح محاكم بعض الدول صلاحية النظر في الجرائم المرتكبة خارج أراضيها، خصوصا عندما يكون الضحايا من مواطنيها أو عندما تُرتكب الانتهاكات في مناطق تخضع لقواعد القانون الإنساني الدولي.
وفي هذا السياق، شدد الأمين العام للاتحاد الدولي للصحفيين على أن الصحفيين الفرنسيين يجب أن يتمكنوا من أداء عملهم دون تهديد أو ترهيب، وأن فرنسا ملزمة بحمايتهم في المناطق التي يسري فيها القانون الإنساني الدولي بالكامل، وأكد أن الشكوى ليست عملا رمزيا بل خطوة تهدف إلى المساءلة وتأكيد مبدأ أساسي يقول إن أي جهة تنتهك حرية الصحافة ليست فوق القانون.
أول دعوى من نوعها في فرنسا
وصفت المحاميتان اللتان تمثلان الاتحاد الدولي للصحفيين والنقابة الفرنسية هذه الشكوى بأنها غير مسبوقة، لأنها تجمع بين توثيق عرقلة ممنهجة لعمل الصحفيين وبين اتهام مباشر بارتكاب جرائم حرب بحقهم، وأشارتا إلى أن اللجوء إلى القضاء الفرنسي يأتي بوصفه ضرورة لردع الانتهاكات وحماية الصحفيين الذين أصبحوا في قلب النزاع، ليس بوصفهم مراقبين بل بوصفهم أهدافا يتم استهدافها عمدا لمنعها من كشف الحقائق.
وأضافت الشكوى أن حماية حرية الصحافة ليست امتيازا مهنيا بل جزءا أساسيا من أي دولة قانون، وأن انتهاك قدرة الصحفي على أداء وظيفته يعادل انتهاكا لحق الجمهور في المعرفة، وهو الحق الذي تسعى المنظمات الدولية إلى حمايته عبر الأدوات القضائية المتاحة.
معركة الدفاع عن الحقيقة
يأتي هذا التحرك الحقوقي في وقت تواجه فيه الصحافة في فلسطين واحدة من أصعب فتراتها، فمع استمرار الحرب وتوسع الانتهاكات، تتراجع القدرة على الوصول إلى المعلومات الميدانية بسرعة غير مسبوقة، وأمام هذا الواقع، ترى المنظمات المهنية أن مسؤوليتها تجاه صحفييها لم تعد تقتصر على الدعم أو الإدانة، بل بات عليها التوجه نحو مسار قانوني رسمي يضع الانتهاكات أمام القضاء ويمنح الصحفيين شعورا بأن العالم لا يقف متفرجا.
وفي مواجهة تعتيم الإعلام في فلسطين، يصر الاتحاد الدولي للصحفيين على أن الحقيقة لا يمكن إسكاتها، وأن الدفاع عن حرية الصحافة هو دفاع عن الإنسان وحقه في أن يعرف ما يجري حوله دون تدخل أو تشويه.
تاريخيا، يمنح القانون الدولي الإنساني حماية خاصة للصحفيين في مناطق الحرب، باعتبارهم مدنيين يقومون بمهمة ذات طبيعة عامة، وتلزم اتفاقيات جنيف كل الأطراف بضمان سلامتهم وعدم استهدافهم أو تقييد عملهم إلا في أضيق الحدود الأمنية، كما تملك بعض الدول، ومن بينها فرنسا، صلاحية مقاضاة مرتكبي جرائم الحرب المرتكبة خارج حدودها في حال مسّ الفعل أحد مواطنيها أو تعلّق بجرائم لا تسقط بالتقادم مثل استهداف المدنيين أو عرقلة العمل الإنساني والإعلامي.
وشهدت السنوات الماضية اتساعا في استخدام هذا النوع من الاختصاص القضائي، خصوصا في قضايا مرتبطة بسوريا وأوكرانيا، غير أن الشكوى الحالية هي الأولى من نوعها التي ترفع أمام القضاء الفرنسي بشأن الانتهاكات التي تطول الصحفيين في فلسطين، ما يمنحها أهمية خاصة في سياق المساءلة الدولية.










